U3F1ZWV6ZTMxMTc4MjE1OTE0NTM3X0ZyZWUxOTY2OTkxNDYwNjAyNQ==

رحمة الله في آياته: تأملات في سورتي البقرة وآل عمران

الرحمة هي النور الذي يتجلّى به عظمة الله في خلقه، وهي الصفة التي تفيض بها السماوات والأرض، فتربط بين الخالق والمخلوق، وبين الناس بعضهم ببعض،جاء القرآن الكريم كتابَ هدايةٍ ورحمةٍ للعالمين، تتجلّى في آياته معاني الرحمة وصفاتها ومظاهرها، حتى كأنها الروح التي تسري في كل سطر من سطوره،ولقد تكررت كلمة الرحمة ومشتقاتها في مواضع كثيرة من القرآن، تأكيدًا على أن هذا الدين قائم على الرحمة أساسًا وغايةً، وأن كل أمرٍ ونهيٍ وتشريعٍ إلهي إنما يهدف في جوهره إلى تحقيق الرحمة بالإنسان والمجتمع والحياة،في هذا المقال، سنتأمل معًا كيف عرض القرآن الكريم معاني الرحمة في بعض سوره، لنرى كيف جعلها الله تعالى محورًا من محاور الإيمان ودليلًا على صفاته الجليلة ورعايته الدائمة لعباده.
رحمة الله في آياته: تأملات في سورتي البقرة وآل عمران

ما هي الرحمة في القرآن؟

الرحمن هو اسم من أسماء الله الحسنى، يصف ذات الله بأنه المنبع الكامل للرحمة الشاملة التي تغمر جميع خلقه. أما الرحيم فصفة اختصّ الله بها لنفسه، فهي تُظهر أفعاله الرحيمة التي ينعم بها على عباده.
الرحمة تعني الشفقة والعطف والتسامح، وتشمل :
  • رحمة عامة: هي الرحمة التي تشمل المؤمن والكافر في الدنيا، مثل الرزق والصحة والمطر والحياة، كما قال الله تعالى:﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾
  • رحمة خاصة: هي الرحمة التي يختصّ بها المؤمنين في الدنيا والآخرة، مثل الهداية والمغفرة والجنة، كما قال تعالى:﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾
وقد وردت الرحمة في القرآن الكريم بأوجه متعددة، منها:
  • كصفة لله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
  • بمعنى المغفرة والعفو بعد الذنب:﴿رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا﴾
  • بمعنى الرزق الذي يتمثل في المطر الذي ينزله الله علي عباده لينبت به الأرض:﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَي رَحْمَتِهِ﴾ 
  • بمعنى النبوة أو الرسالة:﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾
  • بمعنى الجنة أو الثواب:﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ)
  • بمعنى النجاة من العذاب:﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
  • كما وردت الرحمة في القرأن الكريم بمعني النبوة أو الرسالة في قول الله تعالي ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾

أولًا: آيات الرحمة في سورة البقرة

  • الآية (64)
﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾
من رحمة  الله تعالي علي بني اسرائيل انه سبحانه وتعالي نجاهم من الهلاك عندما نقضو الميثاق الذي اخد عليهم وامهلهم ربهم وارسل اليهم الرسل والانبياء،أن الله لم يُعاملهم بالعدل المجرد الذي يقتضي العقوبة، بل بالرحمة التي منحتهم فرصة التوبة،الآية تذكّر المؤمن بأن بقاءه في نعمة الإيمان إنما هو بفضل الله ورحمته، لا بجهده وحده.
  • الآية (105)
﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ 
من رحمة الله تعالي ع عباده المسلمين الذي اختصهم بالرحمة بإرسال سيدنا محمد بالنبوة والهدايا والخير عندما كذب اليهود والمشركين الرسالة وكانو يتمنون عدم نزول الخير ع المسلمين حقداً وكرهاً،أن الله جعل رحمته متاحة لكل من يسعى بصدق للهداية، فلا يمنعها عن أحد بسبب أصله أو قومه، بل يختص بها القلوب المخلصة،رحمة الله هنا تتجاوز الحدود البشرية، فهي ليست تفضيلًا عِرقيًّا أو قوميًّا، بل رحمة عدلٍ وإحسانٍ، تُمنح لمن يستحقها بالإيمان والعمل الصالح.

الآية (157)
﴿أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
هذه الآية نزلت في الذين يصبرون عند البلاء ويقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون،أن الله لا يترك عباده في آلامهم، بل يكرمهم بالرحمة والهداية، ويصب عليهم صلواته – أي ثناءه ومغفرته – جزاءً لصبرهم،الابتلاء ليس نقمة، بل طريقٌ إلى القرب من الله؛ فكل دمعةٍ صابرةٍ ترفع درجةً في الجنة، وهذه هي الرحمة الخفية في الألم.
  • الآية (178)
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ... ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ 
من رحمة الله تعالي علي عباده انه شرع القصاص بين عباده لتحقيق العدل والمساواه وجعل الرحمة والعفو بدلا من القصاص يتمثل ذلك في الدية أو العفو تخخفيفا علي عباده المؤمنين، القصاص شُرع في ظاهره للردع والعدل، لكنه في جوهره رحمة، لأنه يردع الظالم، ويمنع الثأر والفوضى، ويحقن الدماء،أن الله جعل القصاص نظامًا يحمي المجتمع من الانتقام الفردي، ثم فتح باب العفو ليشجع على التسامح والتصالح،رحمة الله هنا تتجلى في التوازن بين العدل والرحمة، فلا ظلم ولا تجاوز، بل إصلاح وتهذيب للنفوس.
  • الآية (218)
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
من رحمة الله تعالي علي عباه المؤمنين الذين اَمنوا وتركوا المعاصي وجاهدو في سبيل الله بالنفس والمال ابتغاء الرحمة من الله والعفو والمغفره في الدنيا والجنة في الأخرة، ويبين الله أن المؤمنين الصادقين الذين ضحّوا وهاجروا وواجهوا الصعاب في سبيل الحق، يستحقون رحمته ومغفرته،أن الله لا ينسى عملهم ، بل يبدلهم راحة أبدية ورحمة لا تزول، ويغفر زلاتهم في طريق الجهاد والإخلاص،رحمة الله هنا وعدٌ كريم، يملأ قلب المجاهد والمؤمن رجاءً وثقة في أن كل تعبٍ في سبيل الله له جزاء رحيم عظيم.

  • الآية (286)
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا... وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا﴾
تختم سورة البقرة بأعظم صور الرحمة واللطف، فالله لا يفرض على عباده ما لا يطيقون، بل يخفف عنهم، ويعلّمهم الدعاء بطلب المغفرة والرحمة،أن الله يعلم ضعف الإنسان فيفتح له باب العفو والدعاء، ليجد دائمًا في رحمته ملجأ وسندًا، من رحمة الله تعالي علي عباده المؤمنين انه لايحملهم فوق طاقتهم وجعل الرحمة في المغفره والعفو عنهم وجزاهم في الاخرة  الجنة، رحمة الله هنا ليست فقط في التخفيف من التكاليف، بل في تعليمه عباده كيف يتقربون إليه ويطلبون رحمته بصدق وتواضع.

رحمة الله في آياته: تأملات في سورتي البقرة وآل عمران

ثانيًا: آيات الرحمة في سورة آل عمران

  •  الآية (8)
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾
 من رحمة الله تعالي علي عباده انه يستجيب لهم عندما دعوه بالثبات والرئفة والبعد عن الزيغ والفتن والضلال وطلب السعادة في الدنيا والاخرة،من رحمته سبحانه أنه يهب عباده الثبات والهداية إذا دعوه بإخلاص، فيمنحهم رحمته التي تحفظ قلوبهم من الزيغ والضلال. تجسّد هذه الآية دعاء المؤمنين الذين يخافون على قلوبهم من الضلال بعد الهداية، فيتوسلون إلى الله أن يثبتهم ويمنحهم رحمته التي تحفظهم من الزيغ والانحراف،أن الله تعالى هو وحده القادر على صون القلوب وتثبيتها، ومن رحمته أنه يستجيب لمن يدعوه بإخلاص، فيفيض عليه الطمأنينة والثبات،الرحمة هنا ليست فقط عطية مادية، بل نعمة روحية تحفظ الإيمان وتزيد القلب نورًا ويقينًا، فهي رحمة الهداية بعد النور.

  • الآية (74)
﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾
من رحمة الله علي عباده انه يصطفي من عباده للنبوة والرسالة والهداية من يشاء منهم الله اعلم حيث يجعل رسالته هم اهل الايمان والاخلاص ،أن رحمته ليست عامة فقط، بل هناك رحمة خاصة يصطفي بها من يشاء من عباده، كرحمة النبوة والعلم والإيمان والولاية،رحمته خاصة بمن يشاء من عباده، يصطفيهم لحمل الرسالة والهداية، ويكرمهم بالفضل العظيم،أن الله يفتح أبواب الخير على من يعلم في قلبه الصدق والإخلاص، فينزل عليه رحمته الخاصة التي ترفع شأنه في الدنيا والآخرة.
  • الآية (107)
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
من رحمة الله تعالي علي عباده المؤمنين انه جعل الجنة هي اعظم مظاهر رحمته لاهل الايمان والصلاح والطاعه ، كما انه سبحانه وتعالي اختص المؤمنين بأنهم يأتو يوم القيامه وجوههم بيضاء جزاء لهم   حيث يخلّد الله فيها عباده المؤمنين جزاءً لصلاحهم وإيمانهم،  يبشر الله عباده المؤمنين بأن من ثبتوا على الإيمان وأحسنوا العمل، سينالون رحمته الكبرى في الجنة، حيث النعيم الأبدي،أن الله جعل الجنة مظهرًا أعظم لرحمته، فهي مأوى القلوب الطاهرة التي صبرت وأخلصت،البياض في الوجوه هنا رمز للنقاء والرضا الإلهي، وهو انعكاس لرحمة الله التي غمرت أصحابها في الدنيا والآخرة.
  • الآية (132)
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
الطاعة سبيل الرحمة، من رحمة الله علي عباده المؤمنين انه من اطاع الله ورسوله واتبع ما امره الله به وما نهاه عنه نال الخير كله وهذا من اعظم ثمار الرحمة ،فمن أطاع الله ورسوله نال خير الدنيا والآخرة،توضح الآية أن الطاعة لله ورسوله هي السبيل إلى نيل الرحمة، فكل أمرٍ ونهيٍ في الشريعة إنما هو طريقٌ إلى الخير والحفظ من الشر،أن الله لم يأمرنا بطاعته إلا لما فيه نفعنا، فكل تكليف هو في جوهره رحمة تهذب النفس وتوجّهها نحو السعادة الأبدية،الطاعة ليست عبئًا بل نعمة، لأنها تقودنا إلى رضا الله ورحمته، وتجعلنا نعيش في انسجام مع القيم الإلهية التي تنير الحياة.

  • الآية (157)
﴿وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾
 من رحمة الله تعالي علي عباده المؤمنين انه من يقتل في سبيل الله دفاعا عن وطنه ودينه وعرضه او يموت علي الطاعه والايمان ابتغاء مرضات الله فجزاءه مغفره من الله ورحمة في الدنيا الآخره.رحمة الله تشمل الشهداء والمؤمنين الصادقين، فينالون مغفرة ورحمةً أبدية تفوق كل متاع الدنيا، ويبين الله أن من مات أو قُتل في سبيله نال أعظم ما يُرجى: مغفرةً ورحمةً خالدة. فالشهادة والموت على الإيمان طريق إلى الرحمة الأبدية،أن الله لا يضيع جهد المؤمنين، بل يجعل موتهم في سبيله حياةً خالدة في الجنة، حيث ينالون رحمة لا تنقطع،رحمة الله هنا تعلو على كل متاع دنيوي، فهي العطاء الأبدي الذي لا يقارن بما يجمعه الناس من مالٍ أو جاه.
  • الآية (159)
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ...﴾
من رحمته تعالى بنبيه ﷺ أنه جعله لين القلب عطوفًا على أصحابه، يعفو عنهم ويستغفر لهم، ويقودهم بالمحبة والمشاورة، فكانت رحمته قدوةً لكل مؤمن،أن الله جعل نبيه قدوةً في الرحمة واللطف، فكان يعفو ويستغفر لمن حوله، ويقودهم بالمشورة والمحبة لا بالقسوة أو الغلظة،تتجلى هنا الرحمة العملية في أبهى صورها، فهي ليست مجرد شعور، بل سلوك وتربية وإحسان، وهي سر نجاح الدعوة الإسلامية وانتشارها بالمودة والخلق الكريم.

الخاتمة 
إنّ الرحمة في القرآن الكريم ليست مجرد صفةٍ من صفات الله، بل هي رسالة حياة تسري في كل تشريعٍ وأمرٍ ونهي، وهي روح الإيمان التي تربط الإنسان بخالقه وتعلّمه كيف يعامل الناس بلطفٍ ومودة.فالرحمة هي مفتاح الدعوة، وجوهر الشريعة، وغاية الإيمان، وهي الطريق الذي يسلكه من أراد القرب من الله.وما أجمل أن نتخلق بها في حياتنا اليومية، فنكون رحماء كما أراد الله لنا، اقتداءً بقوله تعالى﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾

 


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق